رغبة

تموت الرغبة في داخلي كل ليلة.

تتناقص روحي شيئًا فشيئًا فأغيب. أغيب في عالمٍ سوداويٍ بائس، لا مكان للحياة فيه. تموت الرغبة كل يوم، الرغبة في الحياة، في الابتسام والبحث عن البداية. بداية طفلٍ أسلم الروح بعد النفس الأوّل، وكذلك كل بداياتي. تُولدُ بداياتي لتموت فورًا، فحتى هي فقدت الرغبة في المضي قدُمًا.

أنا انسانٌ فارغ، لا مكان لي ولا أرض، أبحث عن وطن، أبحث عن أمل وأبحثُ عن زمنٍ ضاع وضاعت فيه نفسي. لن أجد شيئًا، أنا على يقين من هذا. لن أجد شيئًا ولا حتى صدى لضحكاتي التي ظننتها ستبقى. جتى ضحكاتي فقدت الرغبة في العودة.

الرغبة أصل الإرادة وأساس الحياة وأنا فاقدها وأنتظر النهاية عند عتبةٍ تتكسر عندها كل بداياتي.

ذات يوم

ذات يوم، سأخرج من نفسي ولن أعود.

سأترك الباب مفتوحًا، من يدري، لعلّني أعود.

قد أعود وأجد أحدًا غيري احتلني وأبقى أنا هائمًا.

لن أعود. سأبقى نسمةً عابرة، ترافق ضحكات المارّة وتقفز من تحية إلى أخرى.

سأركلُ هذا العالم بعنف وأركض في العدم إلى حدّ التعب. سأتعب واتساقط على أرضٍ جديدة، سأنغمس في ترابها وانتظر الشتاء. لعلّني ارتوي وأنمو، فأتحوّل الى زهرة. قد أتحوّل الى شجرة ساكنة، قابعةٌ في مكانها منتظرةً النهاية.

سيصيبني الجفاف واتهالك على العشب منتظرًا حطّابٌ ما ليخطفني وينقلني الى فنائه. سيحملني ويوقد حطامي لينعم بدفء رحيلي. ولن انتهي.

سأصبح رمادًا منثورًا على حافّة سجّادةٍ عتيقة لتنفضني يدا عجوزٍ وحيدة تنشد النظافة والراحة قبل رحيلها. سأتناثر غبارًا يعمّ الأرجاء الى أن تحملني ريح متناحرة فيما بينها، تُبعثرني في كل مكان وسأبقى عالقًا في نفس المكان.

غُربة – ٢

لا تكلّموني ولن أكلّمكم. 

لا تلقوا بالًا لي ولن أكترث لأمركم.

دعونا نفترق ونتخاصم ولا نعاود التواصل مجدّدًا. 

لا أنا أُحبّكم ولا يقنعني زيفُكم. 

إرحلوا، إرحموا وجودي وراحة بالي. 

دعوني ألتزم الصمتَ مع نفسي، وأذرفُ الدمع حزنًا وبلا سبب.

سئمتُ التظاهرَ بالفرح والتفاؤل. سئمت الصراع مع ابتسامتي الباهتة والتوسّل لها لتختار البقاء. 

سئمتُ نفسي ومكوّناتي وصوتي الخافت ووهن جسدي المتضائل.

اشتقتُ الى سوداويّتي وتخاذلي، ففيهما ملاذي وراحة بالي. 

راحةُ البال التي لا يجدُها إلّا من عاد إلى وطنه البائس رغم الظروف. 

سأعود إلى وطني، إلى حزني وليلي الحزين. 

أمنيتي بالاختفاء لم تفارقني، أمنيتي بالزوال شيئًا فشيئًا لم تعد أمنية، بل أصبحت رغبة، حاجة وضرورة مُلحّة. 

لعلّ الكون يحتضنني ويبعثر تفاصيلي في العدم. سأبقى في العدم ولن أعود. 

لن أعود لعالمٍ ترقص فيه الرأفة على مشاعري المنكسرة، ولا لعالم يفرضُ فيه الفرحُ نفسه عليّ وأنا فاقده. 

لا تحاولوا إقناعي بسعادتكم ولا تلقوا عليّ بحكمتكم الفارغة، فأنتم أصحاب أقوالٍ وأفعالكم ناقصة. 

لا تظنّوا أنّي بحاجةٍ لكم ولتعاطفكم الذي لن يزيل من وحدتي شيئًا، بل سيدفعني الى التعمّق والتوغّل بُعدًا. 

إرحلوا عني، إرحلوا عن هذا الكون ودعوني أكون. 

دعوني أكون وأُكوّن بُعدًا لا يوازي حياتكم ومحيطكم ولا يلتقي بخط سعيكم الى البقاء أبدًا.

دعوني أفترق عنكم ودعكم منّي فلستُ أنا منكم وحتمًا لستُ لكم.

*****

لستُ محور الكون

أُقلّبُ صفحات أحلامي خوفا من الواقع. أهربُ من نفسي بأحاديثٍ بائسة، مع نفسي.

أعيشُ فراغاً يملأ حياتي، ويزرع بذوره من أعماقي إلى سطحي.

أروي بذور الفراغ بدمعٍ يأبى إلّا أن يكون صعب المنال، صعب الوصول وصعب الرحيل.

أصرخُ ويصرخُ ذاك الحزن الخابتُ في جوفي.

فقدتُ نفسي وأضعتُ ابتساماتي الواهنة.

أضعتُ ابتساماتي، تلك الخيوط الواهنة التي تربطني بما يسمّى فرحاً.

ازداد صمتي قسوة، ازداد ضعفي قوّة، وانهال السواد على ألواني ضرباً مبرحاً ومُمزِّقاً.

لغتي أصبحت كالحجر. تمثالٌ أُحاول نحت معالمه وأفشل.

حتى اعذب النسمات تأتي حزينة. تداعب بأناملها أوراق المساء والليل.

الحزن قاسٍ حقاً، يُصارع عنادي ويتمرّد على سكوني.

لم يتوقّف الكون عن الدوران ولم يصرخ البحر لصراخي.

لم يطرد الليل عتمته عنّي ولا النهار بات أكثر إشراقاً لإبهاجي.

لم تذبل الزهور ولم تتوقف الطّيور.

لم يصمت الجميع احتراماً ولم يأبه لي أحد.

سأغفو على ناصيةِ طريق مهجور.

سأرمي بأوراقي بعيداً، وأحرق خشب أقلامي.

سأهجر هذا الكون، فهو لم يعد يناسبني.

إذ أنّني اليوم عرفت.

عرفتُ ما تجاهلته دوماً.

لستُ محور الكون ولم أكن يوماً.

متابعة قراءة لستُ محور الكون