عاشقة الرماد

أشرب قهوتي في الخارج كل صباح. أرتشف منها لذة مع كل شعاع يولد من الشمس. أبتسم وأُشعل سيجارة.

أسرح بأفكاري بسلام وأبتسم لكل شيئ، للمارّة، للقطة التي تقترب بحذرٍ من مقعدي، لأوراق الشجر المتساقطة عند رجلاي وللغيوم المتلبّدة الكئيبة.

تقاطعني زخّات المطر، تسقط بعض القطرات في ما بقي من قهوتي الداكنة وتبتسم. قهوتي لذيذة، حتّى للمطر. 

يعصف الهواء الغاضب منذراً سكوني بفوضى عارمة ستقتله. عندها أراكِ. أراكِ في أفكاري غاضبة، تسخرين من وحدتي وتكسرين صمتي في صحبة قهوتي.

أراكِ في احدى الذكريات، تصرخين في هدوئي وتطلبين مني الرد على انفعالك. كم كنتِ واهمة. كم كنتِ واهمة، حين اعتقدت أنني سأصرخ في وجهك. كيف أصرخ وشفاهي مطبقةٌ على إسمِك؟ كيف أنفعل وأنت كل هدوئي وخمولي؟ يا لكِ من واهمة. يا لكِ من عاصفة.

أراك في آخر ذكرى لنا، تطلبين مني الرحيل. تكسرين قلبي وتحرقين كل مشاعري الحالمة بحياةٍ معك.

لم أفهم ما حصل حينها، لكنني الآن عرفت. عرفت أن صراخي المفقود كان سيعيدك. لم أصرخ حينها، ولن أصرخ الآن. 

لا أريدك أن تعودي. لم أشتق لصراخك، ولا أريد ان تعودي. لم أعد أحبُّ عواصفك ونيرانك. لم أشتق لغضبك يبدّد سكوني.

لا أريدك في سكوني، ولا أريدك في ضوضائي المتواضعة. لا أريدك في ما أسمع من ألحان ولا في ما أقرأ من كلمات. 

لا أريدك في دخان سجائري ولا أريدك في لهيب ولّاعتي. لا أريدك في ما أمتنع عن النقاش فيه ولا في ما اتبجج بمعرفته.

سئمتُ وجهك الجميل وجمالك الصارخ. سئمتُ جسدك النحيل وخطواتك الراقصة. رغم اشتياقي لكِ، لقد سئمتُكِ. سئمتُكِ، سئمتُكِ.

لم أعد أريد تلك التي تحرق أفراحي عشقاً بالرّماد…

أرتشف ما بقي من قهوتي، أمسح ما تساقط على جبيني من مطر وأعود إلى عملي.

قهوتي ومسائي

قهوتي ومسائي، حزني وصباحي، نُكراني وكبريائي.

أجلسُ على كرسيي صباح كل يوم، أرتشف قهوتي وأتنشّق لهيب سجائري.

يصيح مذياعي بأغنية “عيناكِ” وأنفثُ الدخان بنشوةٍ وانتصار.

“عيناكِ وتبغي وكحولي والكاس العاشرُ أعماني”

أنظرُ الى نفسي، أتعجّب لحالي وكيف أصبحت. أصبحتُ عجوزاً في عُمرٍ مُبْكِر. سعالي يقسو يوماً بعد يوم، أنفاسي تتثاقل نسيماً بعد نسيم وقلبي يتباطأ نكسةً تلو الأُخرى.  ماذا فعلتِ بي؟ سرقتِ لحظاتي وقدّمت ساعاتَك لآخر. وأُشعلُ سيجارة جديدة.

“عيناكِ وتبغي وكحولي والكاس العاشرُ أعماني”

أصبُّ فنجاناً آخر من قهوتي ولا أرتوي. أدمنت المسكّنات والسّكون، وحديث قهوتي. أدمنتُ اللهاث وحريق السموم، وصراخ سيجارتي. أُحاول الهرب، أتركُ كرسيي وأندفع، نحو زاوية بيتي لأعود مكسوراً. لم أعُد أوجه خيبتي، لم أعُد أُناقشُ حسرتي ولم أعُد أكترثُ لأمركِ. أعود الى كرسيي عودةَ الذّليل الى ظالمِه. وأصبُّ المزيد من قهوتي.

“انا في المقعد محترقٌ نيراني تأكل نيراني”

يمضي النهار وأنت تخترقين حواجز تفكيري. أتهالكُ فيما بيني وأَتعب. لم أعُد أُحبُّ المقاومة، مقاومة احتلالُكِ لوجودي. لطالما ظننتُ انها أيام ستمضي وأنا سأمضي بعدها بحياةٍ جديدة. كم أكرهُ هذه الحياةُ الجديدة. كم أكرهُ الحياة التي لستِ فيها. كم أكره نفسي التي باتت خالية من عطرك. وأُشعلُ سيجارة جديدة.

“يا صيفي الأخضر يا شمسي، يا أجمل أجمل ألواني”

أتأمّلُ فنجان قهوتي في كل حين. أتأمّلُ كل فناجيني. ألوانها خلاّبة، جميلة، وفَرِحة، لكنها جامدة. باهتة كبرود وسادتك النظيفة. يا لكِ من حمقاء. أين ستجدين مثلي؟ أين ستجدين من يبني عالمه حولك؟ أين ستجدين من تتغير فصوله بمزاجك؟ يا لكِ من حمقاء. أتسائل فيما بيني وأضحك. ما بالي يائسٌ هكذا؟ من أنتِ؟ مجرّد حبيبة. حبيبة لا أكثر ولا أقل. مجرّد نزوة عابرة، ينتهي عبورها بنهايتي. وأصبُّ المزيد من قهوتي.

“فأنا إنسانٌ مفقودٌ، لا أعرفُ في الأرضِ مكاني”

أُحاولُ النهوض مجدداً. أدور في فلك حيرتي. أبحث عن ملجأ يأويني. وأعود مجدداُ الى كرسيي. سأحتمي فيه الآن. سأحتمي فيه وأرسم حدوداً عند طرفيه وأحرسها. وأُعلنُ الحداد في مملكتي الى حين العودة. عودة أعراسُك وطبولُك ودلالُ شفتيكِ. وأُشعلُ سيجارة جديدة.

“فأنا لا أملكُ في الدّنيا إلّا عينيكِ وأحزاني”

يمضي نهاري وأنا مهووسٌ بوجودك في تفكيري. يغيب صباحي ويهّلُ مسائي وأنا لم أتعلّم بعد أن التفكير فيكِ مضيعةٌ لوقتي وساعاتي. ولكن. ولكن لم كلُّ هذه الثورة في قلبي؟ لم كل هذا العنف يعتريني؟ دعيني وشأني. دعي مسائي الجديد بسلام. فهناك أُخرى تحتل مسائي وإبريق الشاي في مطبخي.

لكِ نهاري، سجائري وقهوتي. ولها مسائي، ظروف الشاي ونعناعي.

السارق

يتسلل نحو منزلها صباح كل يوم. يختبئ وراء جدار الشرفة ويسترق السمع.

ينتظرها لتخرج. يدخل منزلها الفارغ الا من عطرها. يتجول في غُرف المنزل خلسة. يمر بيده على كوبها المنسي في غرفة الجلوس. يرتشف ما تبقى من أفكارها الضائعة.

يحتل مطبخها، يرتّب سلة فاكهة مليئة بتجاعيد إهمالها. يصل الى غرفة نومها. يدخل بثقة رجل البيت. يلتقط قميص نومها المتهالك على حافة السرير. يهمس لعطرها المتمسك بالثوب بهمسات مبهمة.

يستلقي على السرير. يستدير بنظره الى جانب السرير ويبتسم. لو تتحقق هذه الأمنية. لو يستيقظ يوماً الى جانبها ويبتسم لها. يغفو بانسياب بين ثنايا أحلامها المتهالكة على الوسادة.

تشد الشمس رحالها نحو المغيب. تضع مفتاحها في الباب وتدخل. تشمُّ رائحة غريب تحتل المكان. تجول في منزلها بحذر سارقٍ مذعور. تدخل غرفة نومها بهدوء. قميص نومها ينتظرها حيث رمته. وسادتها تعدّ تجاعيد القماش بانتظار عودتها. تتنفس بخجل وتبتسم. من قد يأتي اليها وهي في عالمها وحيدة.

تخلع ثياب اليوم بإهمال. تملأ قميص النوم بجسدها النحيل. تنساب على سريرها كقطعة هربت منه لتعود بحنين. تلتقط أفكارها السعيدة الهائمة فوق وسادتها. تسألها عن سبب وجودها وهي لا تملك اي أسباب للسعادة. من حيرتها تهرب وتغفو.

يخرج هو من خزانتها. يعدُّ الخطوات نحو شعرها المتأرجح على حافة نومها. يقترب بصمت. ينتظر بريق الدمع ليسطع من عينيها النائمتين. يمد يده نحو وجهها، يقطف الدموع من وجنتيها كمن يقطف ثمار الجنائن المتهالكة ويزرعها بمهارة مزارع في مقلتيه.

لن تعرف الفتاة الحزينة سبب سعادتها. لن تعرف ان هناك سارق يزورها كل يوم. سارق يسرق الحزن من قلبها والدمع من عينيها لتنعم هي بسعادةٍ فارغة ويذوب هو في شقاءِ عاشق.

مدونات شبح

لم يبق مني الا نبضات قلبي ومحاولات ضحكات ترتطم بزوايا غرفتي. يمرّ الناس ويتعجبون من امر من كان يقطن الغرفة. من أمري أنا. وتزيد ضحكاتي عندما لا يفهمون. يمرّون دوماً ولا يكترثون بأكثر من فكرة عن ساكن الغرفة الزائل. فهم لهم ضحكاتهم التي ستبقى ولهم نبضاتهم التي سيتردد صداها في غرفة ما. 
أحاول الخروج لأشرح لهم. أحاول الهرب من جدران عزلتي وأفشل. أستسلم، استكين، وارقد في قعر الغرفة هامداً. أخطط للإنقضاض على احد الجدران. استجمع ضحكة من هنا ونبضة من هناك واندفع نحو الباب الخشبي المهترئ.
صلبٌ جدّاً هذا الخشب القديم، هذا الخشب اللعين. يحتجزني وجدران الغرفة الحجرية. قساوة هذا الجماد ووحشيته لا يدرك مداها سوى نبضاتي. لا تفلح محاولاتي ولا توسلاتي. استسلم، ثم انقضّ ثم استسلم. أتعب، فتتحول ضحكاتي الى نحيب. اتقمّص دور السجين. أبحث عن القضبان، حديدية سوداء. لا اجدها. اتقمّص دور الجثة، انتظر من سيهتم بدفني، انتظر من سيعلن نبأ وفاتي، وانتظر…
لا، أنا انتظر شخصاً آخر. انتظرها هي. انتظرُ من كنت في انتظارها زمناً، عقداً من العمر ولم تأتِ. أُدركُ حقيقتي الآن. أُدرك طول انتظاري وأدركُ انني ما زلتُ في انتظارها.
تعود من ذكرياتي صورة مضحكة لجسدٍ بالٍ كان في انتظار من يحب، ولم تأت. أضحك مجدداً، وترتطم ضحكاتي بإحدى الزوايا مجدداً.
استكين وأسترق السمع. خطواتٌ قادمة نحو جدران عزلتي. خطوات امرأة مترددة. أقتربُ بنبضاتي من الباب الخشبي البارد، لعلّ احدى هذه النبضات تصل الى مسامعها.
توقفَت الخطوات عند العتبة. أحسست بترددها. احسست بتراجعها ثم عزمها. يا لهذا الصمت، يا لهذا السكون الرهيب. اترقب الباب منتظراً ان يتحرك.
ظرفٌ ورقيٌ يندفع من تحت الباب. خطها مرسومٌ في وسطه. وتبتعد الخطوات ويبتعد صداها. تحترق ضحكاتي قهراً. تتقهقر نبضاتي وجعاً. لم تدخل ولا يد لدي لافتح الظرف وأقرأ.
ارتعدُ غضباً وأثورُ حنقاً. ماذا كتبَت؟ ماذا كتبَت؟ ضحكاتي عاجزة، ونبضاتي حائرة. ماذا كتبَت؟

قالت له

قالت له ارسم لي قلباً
خطّ بقلمه قليلاً وقال رسمت
قالت هذا قلبي، وهو لك
أُرسم لي عيناً واسعة
تمايل قلمه لبرهة ثم قال رسمت
فقالت هذه عيني التي لا ترى إلا انت
ارسم لي دمعاً كثيراً
ابتلّت أوراقه بالرسم وقال رسمت
قالت هذه لك لترافقك في البُعد
ارسم لي شمساً ساطعة
أشبع ورقته بالضوء وقال رسمت
فقالت هذه لنهاري عندما تغيب انت عنه
ارسم لي قمراً حزيناً
جال على ورقته بالقلم وقال رسمت
فقالت هذا لك تحملُ معه حزني بعد الفراق
قال لها لن ارسم شيئاً فتعجبّت
ثم قال سأعطيك ورقةً بيضاء
وقلماً لتملئيها حباً ارتشف منه وممحاةً قديمة
فقالت وما أمر هذه الممحاة
فقال لتمحي بها قلبي عندما يحين الوقت