على ورقتي

سأرسم في أعلى ورقتي نجمة. سأُطلق عليها اسماً، وأبدأ بعدّ السنين في حياتها. سأُكلمها كل ليلة، وأنسج لها ما يطيب لي من الكلمات. سأسهر على ضياؤها كل مساء، وأرتّبُ زواياها كما أشاء. سأرمي بها كل المشاعر، وأُغلق عليها كل الأبواب. 

سأرسم في منتصف ورقتي شجرة. وأرويها من حبر قلمي حتى الجفاف. سألوّن ثمارها بكل الألوان، وأحكم الحصار على أوراقها حتى النسيان. سأقطف من الثمار ما يطيب لي. وأهدي منها من يلذُّ لي. وأغفو تحت جذعها الأملس، وانتظر من سيأتي ليرسم شمس الصباح. 

على ورقتي، سأرسم كل الفصول. وفي دفتري سأرمي كل الفضول. فضول سيجذب من أحب. 

سنرسم بيتاً نعيش فيه. ونهرًا نزور في مياهه كل بلاد الحب. سنصل الى بحر جميل. مياهه تنتظرنا وشطّه يحتضننا. سنحفر على الرمل إسمينا ويمنع الموج نفسه من الذهاب بها.

سنهرب في عتمة ليلٍ الى الفضاء. ونسكن القمر. وننظر الى أهل الأرض باستهزاء. سنضحك ونضحك ونضحك. سنفرح ان حبّنا بدأ على ذاك الكوكب المسكين ونفخر بأننا تركناه. 

سنزور الأرض بين الحين والآخر، ونحتفل بذكرى حبّنا ثم نعود الى القمر. 

سنُدلي بإصبعينا نحو القارات، ونحدد قارةً جديداً للإحتفال. سنضحك كثيرًا ونُحب بَعضنَا البعض أكثر. سنكتب ما يحلو لنا من القصائد ونرحل، متى نشاء، الى كوكبٍ آخر. 

الخيّاط

حتى اعذب النسمات تأتي حزينة.

تداعب بأناملها أوراقي والليل، تُلاعب كلماتي وأقلامي، تبعثر حروفي وأفكاري، تزلزل سكوني وترسم بسمتي برقّة. 

تترك حزنها في حضرتي، ترسم الخيوط حول زوايا طاولتي وتهرب. 

أتوقّف عن الكتابة، أطرد أفكاري البالية، أبحث عن فكرةٍ سعيدة لأكتب عنها وأمسكُ قلمي. 

صعبة هي الأفكار السعيدة، تنال من مخيّلتي كل مرة. تقتلها وترمي بها في الحضيض. وأفشل في كل مرة أحاول فيها الكتابة بسعادة.

صبغة كلماتي قاتمة، حزينة وكئيبة. صبغة تمكّنت من الإستقرار بين أفكاري. قاومت اكثر اللحظات سعادةً وانتصرت. 

سهلةٌ هي الأفكار الحزينة، لدي الكثير منها. ولدي كل أنواعها وأحجامها. وكأنني “خيّاط” أفكار. أُفصّل منها ما يناسب اوراقي ومزاجي. 

أخيطُ في كل يومٍ فكرة. أرسم حدودها وأبعادها. أقتطع منها ما يفضح ترهّل بسماتي وأُزخرفُ ما أُحِب من رسومها. 

أنتهي من خياطة سطوري كلّها. أقيسها وأبتسم. إنها تلائمني وتفرضُ مكنوناتي. ثم أبتسم. 

أين هي تلك النسمات الآن؟ ها أنا أنهيتُ الخياطة من جديد. أين هي تلك النسمات؟ فلتأخذ هذه السطور. فتلفرّقها على المحتاجين للكلمات والحروف. لعلّ كلماتي تجدُ وقعاً جميلاً لدى غيري. فأنا قد سئمتها. 

إذهبي أيّتها النسمات الحزينة. إذهبي بحزني بعيداً. دعيني أبدأُ البحث من جديد عن فكرة سعيدة لن أجدها.

لهذا كتبت

سلطان وحدتي وتأملاتي أنا. سلطان أفكاري وتخيّلاتي وكل آمالي. أنسج من أحلامي ما أشتهي وأمحو ما لا يليق بشخصي. أقتل من أكره في حياتي وأكلّل من أُحِب بأبهى الحلل.

وحدتي هي مجالي. مجالي الخاص، ممنوعٌ من دخوله أحد. لا يعرف كُنْه وحدتي إِلَّا من قرأ ما يجود به قلمي على أوراقي. إنسانٌ معقّدٌ أنا. خطوطي متداخلة في لُحمةٍ لا يبددُها راغبٌ ولا يفك رموزها مشاغب. لي من نفسي شخصيات عديدة، تتناحر في ما بينها ولا تفوز إحداها.

تغيظني أفكار الغير عنّي. ما أدراهم من أنا؟ ماذا يعرفون عنّي؟ وكيف يعرّفون عنّي؟ أكره نظرتهم لي. أكره ما يؤلفون من كلام وما يحللون من شخصيتي.

لا أُحبُّ الإقتراب من أحد. لا أُحبُّ أن يكون لي أي عزيز. بل لا أحبُّ أن يكون لي أي عزيزٍ غير من هو عزيزٌ بالفعل. أَعتبرُ أنّ حياتي في طورها المكتمل من العلاقات الآن. بنيتُ حياتي على من صدر حكم المحبّة بحقّهم وباتوا هم الأقرب. 

لدّي كرهٌ دفين. كرهٌ يختبئ وراء ابتسامتي الباهتة. فكما هو “المتهم بريء حتى تثبت إدانته، أنا أكره كل الناس حتى تثبت محبّتهم. هذا مبدأي وهذه حياتي. 

اكتفيتُ من المزيفين. اكتفيت من متعددي الوجوه ومزيّفي المشاعر. لا أمتلك الوقت الكافي. دقائقي ثمينة ولحظاتي غالية، وليس لدي سواها لأهديها لمن أُحِب.

حتى الكتابة، لم أكن أُكرّس لها وقتاً. لم أمارسها إِلَّا حديثاً، فهي الأخرى تحتاج الى وقت. وانا لم اعقد سلامي معها ومع أوراقي إِلَّا حديثاً. لهذا كتبتْ وهنا ينتهي البيان.

رحيل

صمتٌ ونعاس، وأقلامٌ ترسم حروفاً وأوجاع.

صمتٌ وبكاء، ودخانٌ يخنق المكان والأنفاس.

صمتٌ وخوف، ونيرانٌ تلتهم الجدران والذكريات.

صورٌ محترقة، أوراق مبعثرة وأحلام متناثرة.

بقايا ضحكات بين الحطام، بدايات تعثّرت بغبار الركام ولا احد ليشغل المكان.

بيتٌ صغيرٌ، كان بيتاً، كان وطناً، كان عمراً وكان عرقاً، التمع في يومٍ على جبينٍ عجوز. عجوزٌ رحل قبل الدمار، ترك المعاناة لذريّةٍ بيضاء ورحل.

رعبٌ يدوّي من بعيد. رعبٌ قادمٌ من البعيد. رعبٌ خائبٌ عند الوصول. رعبٌ سيصل ولن يجد من يرعبه.فقاطنوا الدار رحلوا. التحقوا بموكب العجوز وضحكوا.

ظلمٌ سيصل، ظلمٌ سيصرخ ويعوي في الفراغ، بين الركام وحول البقايا.

ملكٌ ظالمٌ، داكنٌ كالليل، حارقٌ كالشمس، سيقطن الدار، او ما بقي من هذه الدار.

وهذه هي الحال والأهوال. 

هويّة

لم أعُد اعرف من أنا

نسيتُ هويّتي وانتمائي

كل ما أذكره هو عيناك

كل ما اعرفه هو اسمك وهجرانك

دعيني… إرحلي عنّي

ابتعدي عن ذكرياتي

كما ابتعدتِ عن حياتي

من انا؟ ومن انت؟

انا من يرى وجهك كل صباح

وانت من هجرت وسادتي كل ليلة

انا من يرقص فرحاً بأفكاره

وانت من تدفن ضحكتي بأناملها

انا من يهيم كل يوم في زوايا حياته بحثاً عنكِ

وانت من تختبئ بين ثنايا الكذب لتغدر بي

سأبحث عن اسمٍ جديدٍ لكِ

سأبحث عن حزنٍ يليقُ بكِ

وأبحث عن موتٍ يعيش بك

وأجد صمتاً يطول معك

إرحلي كما رحلتِ سابقاً

اهربي كما انسحبت باكراً

لا تنظري وراءك

فليس من قاتل يطمئن على ضحيته

وليس من قاتلة تذرف دمعاً على قلبٍ نسفته

أكرهك

أكره ضحكاتك وهمساتك

أكره دهائك وغمزاتك

لكنني احبك اكثر

أكرهك

لأَنِّي لا اجد مهربا منك

لأنني لا اريد ان ارحل عنك

أكرهك، لأنني احبك…

قراءة في نفسي

كثيرٌ من الركود، طيّاتٌ مر طويلُ الزمن عليها، شيءٌ في كل زاوية، شخصٌ منسيٌّ فوق كل زاوية.

لم أعد أذكر كل ما مرّ في حياتي، ولم يبق سوى ما ترك أثراً فيّ أو جرحاً عميقاً يحفرُ في أعماقي عمقاً آخر.

أتفكّر أحياناً وأستنتج، أنني أعيشُ في الذكريات. كلُّ شيءٍ في حياتي له ماضي. ماضٍ لم أعد واثقاً من مُضيّه.

الماضي هو كل ما فات، فلمَ إذاً تعود الذكريات؟

ذكرياتي هي حاضري وماضيّ. أحاول الهروب منها مراراً. تارةً بإبتسامة لطيفة على وجهِ حزنٍ زائر. وتارة أخرى بحزنٍ جارحٍ في وجه فقدانٍ قسريّ لم أقاوم سلطانه يوماً.

ليست كل ذكرياتي حزينة. ففيها ما أضحكني يوماً وسوف يضحكني يوماً آخر. وفيها ما أشعرني بالضجر لبرهة ثم كسر ما علا من شأني سابقاً.

أقرأ نفسي وأستنتج، أنا مجرّد حطام. حطامٌ لمركب أبحرت منذ زمنٍ بعيد، تقاذفتها أمواج الحياة لترسو في ركنٍ مهجور. أستكنتُ فيه وأحببته. ومن حينها والغبار يتراكم فوق الذكريات.

وأرسم حروفي

ليلٌ كليلي، يحترفُ داكن الألوان وأبهاها. وصمتٌ، من أنيني، يرسم ألم الجراح وأقساها.

همسٌ يصرخ في رأسي، يخيفني، يؤذيني ويوقظُ فيّ الجنون.

وأُتابع طريقي.

أمضي وأنا أبحث في زوايا العتمة عن بقايا ضوءٍ لا تفقه من النور شعاعاً.

وفي نهاري، ليلٌ عجوز يداعب الشمس بظلامه.

وأُطفئ مصباحي.

أتوه بين ثنايا الوسادات في حلمٍ، لا يعرف عني سوى ما أكتمُ من خبايا الرغبات والمشاعر.

وفي حلمي، أطيافٌ تركُنُ جفافاً يمتد الى منحنيات شفاهي. جفافٌ يربط كلامي بصوتٍ تشقق من قسوة كلامي.

وأمحو سطوري.

أثورُ وأسعى للبدء بليلٍ جديد، يحمل في جديده عتمةً لا تليق بظلامي.

فأنا أرى في الليل ما لا تراه دموع التعساء الصامتة وأسمع فيه ما لا يصل لآذان القلوب الحالكة.

وأجد فيه من الأفكار ما لن تعرفه أوراق المؤلفين البالية، وعند أفكاري أقف.

وأُغلقُ كتابي.

إنه الليل

انه الليل.

إنّه الليل يا ليلي، ألا تراه؟ 

إنّه الليل يا حزني، ألن تبتسم له؟

إنّه صديقي الذي يأتي كل ليلة ليكشف أرق عيناي، يغلب نعاسي ويسامرني.

إنّه الليل يا وحدتي، لماذا الحياء؟ 

إنّه الليل يا دمعتي، لماذا السّخاء؟

افتقد نومي المتقطّع وتقلبّاتي. افتقد كوابيسي وعنيني. افتقد خمول نهاري واحلام يقظتي. 

لم أعُد أسائلُ نفسي ليلاً، ولا أزور مملكة خيالي. 

ضاعت رتابة حياتي وضجر مني ملل لحظاتي. 

سريري يخافني، وسادتي ترفضني وغطائي يعرّيني. مسكينٌ انا ونعِس. مسكينٌ لما حلّ بي من نعسٍ في كل يقظاتي.

سأسرق ممحاةً من مقلمتي وأبدأ. سأمحو نفسي شيئاً فشيئاً. سأمحو نفسي وأنجو بها منّي ومن ظلامي. 

نفسي ونسياني

نسيت نفسي، ذات يوم، عند حائطٍ مهجور. نسيت ظلّي شامخاً تحت عنفوان شمسٍ ساطعة. ومضيت في طريقي بحثاً عن نفسٍ أُخرى.
لم أكن أعرف انني تائهٌ الى غيرِ رجعة. لم أكن أعرف انني سأمضي في بحثي ولن أجد ضالّتي.
ما سمعتُ يوماً عن أحدٍ أضاع نفسه ووجدها بعدها.
وفي غمرة يأسي وجدت سنيناً هائمة. تبحثُ عن من أضاع عمره ووقعت منه سنينه ساعة غفلة. وجدت سعادةً تنتظرُ حزينها في موعده المتأخر. ووجدت دمعة فرحٍ تترقّبُ وجهاً باسماً لا بدّ ان يأتي.
كلٌ ينتظر، والكلُّ لا متى يحين موعده. وموعدي مع نفسي لم يُحدد بعد. وبتُّ الآن بانتظار موعدي لأبحث عن نفسي.
عُدتُ إلى منزلي صامتاً. تصفّحتُ كتاباتي ممازحاً. وجدتُها حزينة، تبحث عني وتأمل أن أضيف سعادةً متواضعة ولو في جملة قصيرة.
حزينةٌ كتاباتي. لا تعرفُ أن السعادة لا مكان لها بين حروفي ولا متّسع لها بين كلمات أحزاني. غبيةٌ كتاباتي. تعتقد أنني سأصغي لها، وأبدأ الكتابة من جديد. وضيعةٌ كتاباتي. نغمُها رتيب وجوّها كئيب.
ركلتُ قلمي وبحثتُ عن ريشةٍ أرسمُ بها. فإذا بي أجدُها صلبة، جافّة وتخاف أن تتكسر بلقاء الألوان. غضبتُ ورميتها هي أيضاً.
ما بالُ هذا النهار؟ واضحٌ في كل تفاصيله.
ما بالي انا اليوم؟ أرى كل شيءٍ بوضوحٍ ونقاء.
لا بدّ ان حياتي سئمتْ منّي ومن قنوطي. لا بد انها ستهجرني. عليَّ أن أفعلَ شيئاً وأمنعها. لا بدّ ان اجد للسعادة مكان. لا بدّ ان أُدخلَ السرور الى قلبِ كل ما ومن في حياتي وإلا ستصبح صبغتي الدائمة ككتاباتي.

مَسْكَني فيه انتظار

أحمل بين يديّ أوراق بالية. أمرُّ بأصابعي على ما يسكنها من كلمات. أتذكرين؟ تلك كلمات خطّتها أصابعك. وأتذكر…

أجوب مطبخي بحثاً عن أواني الطعام المتهالكة. أشتم ما بقي من رائحة طَعَامِك. أتذكرين؟ لطالما تمسكت بها رفضاً للأواني الجديدة. وأتذكر…

أرقص في الرواق بتأنّي. أسافر بذراعيّ مع رقصتي الى حيث انت رقصتِ يوماً. أتذكرين؟ تلك رقصاتك الجميلة المغرية. وأتذكر…

مسكني حزين اليوم، يبحث عنك في كل قنينة عطر، ينتظر صوت خطواتك ويرقص طربا كلما فرحتُ بطرقات مفاجئة على بابي.

مسكني مهمومٌ اليوم، يدري انك رحلت منذ زمن بعيد، يخاف لوعتي وصُراخي حين أُدرك انك رحلت الى غير رجعة.

مسكني فرحٌ اليوم، يحتفل بنهايةٍ شارفتني، ستزيحُ عن كاهله ما سيثقله من حزني حين أرحل.

لا تعودي الى هذا المنزل، لا تطرقي باب هذه الدار، فلن يبقى هناك من يجيبك. ستأتين وتعزفين على باب منزلٍ ساكنه انتظرك عمراً ورحل. رحل وأخذ عمره معه الى منزل آخر. منزلٌ جديدٌ حيث الانتظار فيه لا يُحزن ولا يكسر قلوباً ذابت من حرارة الانتظار.