أفكار الليل

عقدتُ صداقتي مع الليل مؤخرًا. بتُّ أعرفُ الكثير عنه كما عرَفَ هو الكثيرَ عنّي دومًا. أعلنتُ سلامي معه ومع عتمته المسالمة الآن. الليلُ يُبعدُ ضوضاء الناس عنّي ويكتم عن أذنيّ أصواتهم. بتُّ أرى في الليل ضوءًا حالكًا، لا يَرى جماله سواي.

في الليل، تأتي إليّ أفكاري، باحثةً عن سريرٍ لها في خبايا فكري. في الليل، تصلُ إليّ الموسيقى، بطعمٍ مختلفٍ وأحاسيسٍ جديدة. وفي الليل، ترقصُ الكلمات في رأسي وتتزاحم عند فمي، لتندلق بغزارةٍ على أوراقي.

أردتُ الكثير نهارًا، ونسيتُ إرادتي ليلًا. أردتُ أن أكون ضوءًا، يسطعُ نهارًا ويخبتُ ليلًا. واليوم، أريدُ أن أكونَ ضوئًا يتألّق ليلًا  ويندمجُ إلى حدّ الإختفاء نهارًا.

في الليل، أريدُ أن أكونَ همساتَ عاشق، أحتلُّ أُذنَ معشوقته إلى الأبد. في الليل، أريدُ أن أكونَ نسيمًا، يلاعبُ الأوراق المتساقطة من الشجرِ وينتقلُ بخفّةٍ من وجنةٍ لأخرى. وفي الليل، أريدُ أن أكونَ قمرًا، أسرقُ مشاعرَ التائهين ووحدَتهم وأنثرُ في قلوبهم فرحًا وسمرًا.

أريدُ أن أكون معزوفةً، تُغازلُ آلات الموسيقيين ونوتاتهم. أريدُ أن أكون شعرًا، أُسافرُ عبر الأصوات الشجيّة وأستقرّ في القلوب والأذهان. وبعد كلّ ذلك، أريدُ أن أكون كاتبًا وشاعرًا، يحفظُ كلماتي العشّاق، يغنّيها المغنّون ويرددها السامعون.

إليك

في داخلي ثورة،في داخلي اجتياح.

في داخلي، نيرانٌ ورياح.

كم كنتُ آملُ أن تكونَ وحدتي، سلامي ومساري.

كم كنتُ آملُ أن تكون جسري، معبري واتجاهي.

وكم كنتُ آملُ أن تكون كلَّ آمالي وبعضَ أحزاني.

لولا أنّ حبَّك نما في قلبي، لكنتُ اخترتُ دربًا غيرَ دربك.

ولولا أنَّك ملجأي وملاذي، لكنتُ احتميتُ في حضنِ غيرك.

ولولا أنَّك بدايتي ومغامراتي، لكنتُ وجدتُ نهايةً لا تبدأ بك.

يا وجعي أنتَ ويا أشواقي.

يا أسوأي أنتَ ويا حسناتي.

يا لهبي أنتَ وألسنة نيراني.

وحرائقي، ودماري، واضطراباتي، وهدنتي، وغدري.

طوقُ نجاتي أنت، يا أشدَّ لهيبي.

يا من تكسرَ منّي في كُلِّ يومٍ قطعةً،

وتقضم من روحي مع كُلِّ نظرةٍ كسرة.

فتخطف من قلبي نبضًا

وتسرق من سكوني سلامًا.

سلامٌ عليك وعليّ السلام.

سلامٌ لقلبك ولقلبي السهام.

سلامٌ بك ولَك الإستسلام.

ضائعٌ أنت من دوني وهالكٌ أنا من دونك.

قسوتك عليّ، ضعفٌ في قلبك يا أقسى القساة.

أنت أقسى القساة وأنت من يحتفي بك أشدُّ الطغاة.

دعني أعزفُ ألحاني لأستبدّ بضوضاءِ حربك.

دعني ألحّنُ كلماتي ليطول انتظار رصاصاتك.

منك أنا، لا تغدر بي.

لك أنا، لا ترحل بي.

ولديك أنا، لا تعبث بي.

 شيءٌ إسمه الأمل

اليوم، آنا على موعدٍ مع نفسي. سنخرجُ سوياً ونمرح. سنمرُّ بكل الذكريات، نتوقفُ عند كلِّ واحدةٍ ونتأمّل. كيف كنّا، كيف تفاعلنا وماذا فعلنا بعدها.

اليوم، سأكتشفُ نفسي على حقيقتِها. سنتحادثُ ونتناقش، سنتخاصمُ ونتهادن ومن ثم نعودُ الى بَعضِنا البعض وكأن شيئًا لم يكن.

اليوم، سأخرجُ من نفسي، سأنظرُ إليها من بعيدٍ وانتقدُها. سأرثي أقلامي وأحرق أحرفي وأهجر صفحاتي.

أخاف من نفسي عندما انظر اليها في المرآة. فهي تتغيّر، صفاتها تتبدّل ومزاجها يتعكّر. أخاف أنني يومًا لن أَجِدَ نفسي كما اعرفها.

اعتدتُ السنة اللهبِ واحتلالها لأعماقي. اعتدتُ الحزن وأضعتُ طريق السعادة. أسلمتُ الروح الى أرقٍ يتسلى بي ليلًا وينوب عنه الخمولُ نهارًا.

أرى نفسي بائسًا هائمًا بلا هوادة. أصطنع الحياة وأُزيّف الإرادة. أحملُ في جيبي اوراقًا متنوعة، فيها وصفةٌ للسعادة ، وصفة للإبتسامة ووصفاتٌ لم اجدها بي يوماً.

أرسمُ  تفاصيلَ حياةٍ فرحة على أوراقي وأنسى أبعادها حين احتاجها. على أوراقي أرسمُ  ما يطيب لي ولستُ بحاصدٍ لأي من ملذاتِ رسوماتي.

ملّت منّي رقصتي المجنونة ليلاً، أصابها الضجر من وهني وضعفي. هربت منّي المشاعر، فأنا ما أكرمتُ منها إلّا السواد وأهنتُ ما بقي.

أحتاج إلى أن أتغيّر، أتحوّل وأتبدّل. أصابني الملل وضاق عليَّ حصارُ هذه الحياة. أحتاج إلى الرحيل ولَم يأتِ القطارُ اللعينُ بعد.

وأبقى في حالةِ انتظار. وأشردُ في أحزاني متأملًا. ثم أسردُ على نفسي أقاصيصَ السعادة والحب. ثم أتأفّف وأركلُ ما بقيَ لي من سنينٍ وحياة.

ملّ الحزنُ منّي ورفعت سلاحَها الكلمات. وهنا أخافُ أنا وأرتعد. أنا من دون حزني لن أكون انا. أنا من دون وهني لن أبقى أنا. وأنا من دون ضعفي أخسر هذه الحياة.

وأكتفي بهذا القدر من الكلام، فهناك شيئٌ لم أعتدْ سماعَ إسمه كثيرًا. شيءٌ إسمه الأمل. أضعتُه مثلما أضاعه غيري وحلّ مكانه شيءٌ إسمه الملل.

حالة عشق

أحبك بصمت، وأخفيك بين أسراري.

أعشقك بعمق، وألقاك في أوهامي.

أناديك بوهن، وأنسى فيك كلامي.

أحملُ في طيّاتي حبًّا، طال سكوتي عليه ونكراني. أدفنه في أعمقِ شراييني، ليبقى هو الأصلُ وتجري فروعُه في عروقي.

بين الجفن والعين أراك، وبين قلبي ونبضاته. فأخفيك بين روحي وجسدي ليرتعد بك كياني. وأتعب. أتعبُ منك إلى حدِّ الوهن، فأُحررُك الى السماء والغيم وتنسى أصلَ وجودي.

أطبق عليَّ بجناحيك، ثم قيّد حرّية عهودي. واحرس محيطي بعينيك ودع نيرانك تجتاحني. أغلق عليَّ حدودي، فبدايتها ما لديك ونهايتها موتُ وعودي.

إنهض من طقوسك الخافتة وانثر في دنياي البذور. أَمطر عليَّ كلامًا معسولًا، بعثر وجودي بغضب وانفني إلى عالمٍ فيه من الحبِّ براكينٌ تثور.

إرفع عنّي صفة الإنس، فأنا في حضورك نبض.

واكتب على جبيني إسمك وكن لي عاطفةً وجسد.

وارتفع في مداري شمسًا وبين طيّاتي نورًا ومدد.

أما آن أوانُ الرحيل بعد؟

أما آن أوان الرحيل بعد؟ لبثتُ الكثير منتظرًا ولَم أرحل بعد. سئمتُ وقعَ خُطايَ الرتيب الهادئ. مللتُ نبضات قلبي العشوائية  وكرهتُ تكرار الأيام نفسها، كل يوم.

ما عدتُ أحتملُ نفسي وازداد احتقاري لذاتي. ما عدتُ أحتملُ أخطائي وازداد كرهي ليأسي. ما زلتُ أسلكُ الدرب نفسها ولَم يحن موعدُ الرحيل بعد.

ألوذ بالفرار من وحدتي لألجأ في النهاية إليها. في الوحدة، يتمركزُ الأمان، فأنا لا أُخطئُ بيني وبين نفسي. في الوحدة، يستكين الألم، فأنا لن أجد كلماتٌ جديدة لتؤلمني من جديد.  وفِي الوحدة، تستقرُّ نفسي، فأصبح طيفاً لا يخترقه حزناً ولا فرحا.

أما آن أوان الرحيل بعد؟

أما زالت النهاية بعيدة؟

أم أنّ خطواتي هي المتثاقلة والبطيئة؟

تحرقني لدغات الحزن كل يوم، مثل ما تحرقُ لساني قهوتي الساخنة. تنخرُ قلبي برودة القسوة، مثل ما تنخرُ العاصفة عظامَ طفلٍ إفترش الشوارع نوماً.

أسيرُ في متاهة حالكة، اختفت ملامحها ودهاليزها. أخوض معارك مزّيفة، ليس فيها من يتقاتل سواي وأفكاري.

سأبقى أسير أفكاري، وقعُ خُطايَ ودربي الطويلة، ولَم يحن موعد الرحيل بعد.

عثراتُ قلم

تدور الساعات ويتباطأ الوقتُ في فلكي. ترتطم مسيرتي بحواجزٍ من الخوف والقلق. وأتحوّلُ الى عدمٍ يكادُ لا يجدُ مكاناً لفراغه.

تنتابني حالاتٌ أفقدُ فيها الإحساس بالمكان. أتناثرُ كالغبار في كل مكان وكل اتجاه. ثم أجتمعُ ويلتمُّ شملي عند نقطة البداية.

بدايتي.

بدايتي ليست ككل البدايات ولا تشبهُ بِشَيْءٍ نقطة الإنطلاق. وصلتُ إلى نفسي في منتصف حياتها، وبدل أن أكبُرَ وأعلمَ أكثر، تسارعت خطواتي نحو النهاية.

نهايتي.

نهايتي لا تنبئني بِشَيْءٍ على الإطلاق. نهايةٌ سوداءُ قاتمة، تعبثُ ببدايتي وانطلاقتي وكل محطّاتي. تُهادنُها تارةً وتارة تقتلعُها من جذورها كشجر صارع الرياح العاصفة وخسر معركته.

ما بنيتُ جدارًا وبقي صامدًا، ما شيّدتُ القصور ودامت ممالكها، لم يبق إلّا الرخام. رخامٌ ناصعٌ ينتظرُ بصبرٍ نهايتي ليمتلئ بالسواد. رخامٌ على وشك التشقق والتناثر.

رخامي.

رخامي يشبهني، غبارٌ متناثر، سكونٌ وعدم، أصواتٌ مكتومة وألم. رخامي يشبهني، نسي البداية، أضاع وجوده ولم يصل بعد إلى نهايته.

عبالي

عبالي أقعد مع حدا كبير بالعمر، يخبّرني عن الحياة، يعطيني فكرة عن كل شي رح عيشه وبالآخر يقلّي ما تخاف، مع الوقت، كل شي رح يصير أحلى. عبالي يقلّي إنّي عم بتعب هلّق لأنّو بعدين رح ارتاح كتير. عبالي يقلّي إنّي رح أوصل لآخر الطريق اللي عم بمشيها ورح إنجح ورح حقق حلمي. عبالي هالكبير يقلّي كم خيبة أمل رح واجه، وكم مرّة رح نام زعلان وكم مرّة رح أوعى من النوم معصّب ومقهور. عبالي يخبّرني إنو كل يوم بقضّيه زعلان رح لاقي بداله إيام كتير كون مبسوط فيها والفرحة مش سايعتني.

عم فتّش على كبير بالعمر، يحكيلي قصص تخلّيني إضحك من قلبي وأنطرها واتمنى تصير معي. عبالي شوف ويخبّرني كيف تغيّرت حياته وصارت أحلى. وإتعلّم منه كيف يقاتل الزمن والضجر واليأس.

لو في كبير بالعمر بيعرف بيقرا الناس، يقراني ويساعدني إتخطّى حالي والحواجز. يعطيني ملاحظاته وينبّهني وين عم إغلط ووين عم إتصرّف صح. عم ركبر بالعمر وبعدني ما فهمت هالدني. رح إكبر أكتر ويمكن لاقي حدا زغير بالعمر يتطلّع فيني وينطر منّي نصيحة أنا بعدني ناطرها.

رح لاقي حدا زغير بالعمر، يسألني عن الحياة، يطلب منّي خبّره عن كل شي رح يعيشه وبالآخر قلّه ما يخاف، مع الوقت، كل شي رح يصير أحلى. رح ينطر منّي إجابات كتير، أنا بعدني ما لقيتها.

سأرحل عن هذا الكوكب

سأرسم وجهي على ورقةٍ بيضاء. سأزرعُ في تقاسيمه الألوان والخطوط. سأبتكرُ لوجهي إسماً جديداً. سأكلّمه وأُلقي عليه باللوم في كل المناسبات.

سئمتُ لومَ نفسي وسئمتُ تبريرَ الأمور. سئمتُ أعذاري واشمئزازي من نفسي وأسبابي.

سأنفصل عن نفسي وأنفصل عن كلماتي. سأبتكرُ مشهدًا جميلًا وأعيشُ فيه. سأتأمّلُ أوراق الأشجار المتساقطة وأبحثُ عن شاعريةٍ فيها، فقدتُها منذ زمن. سأتأمّلُ المحيط ووجودي فيه. سأعدُّ أوراق الشجر نفسها وهي نائمةٌ نومها الأبديّ. ستبعثرها رجلاي عندما أسأمُ الجلوسَ وأنتفضُ ذاهباً الى مُستقرٍّ جديد.

سأعتمد العشوائيّة في حياتي، أفكاري ،كلماتي. سأكتبُ المنفصل عن المواضيع وأُلوّنُ أحرفي وحروفي بنافر الألوان وأكثرها لفتاً للأنظار.

لدي مخططاتٌ كثيرة، سأُبعثرُها وأضربُها عرض الحائط. سأُبعثر مشاعري وأنشرُ فيها الفوضى. ليس لديّ الكثير من الأفكار ولكن لديّ الكثير من الفوضى. وهذا الكثير هو دافعي الذي به أمضي وعليه أعتمد.

سأدور حول فلكٍ غيرُ مستقرٍّ وأسلكُ مسارًا متعرّجًا، مخالفًا للكواكب والمجرّات، سأستقرُّ بعيدًا عن عالمي. سأرحل عن هذا الكوكب الى غيرِ رجعة. سأبدأُ صفحةً جديدة في دفترٍ جديد على كوكبٍ جديد. سأبني بيتاً في منتصف تلك الصفحة الجديدة. هناك حيثُ رسمتُ وجهي. سأقفُ عند ناصية وجهي وأزرعُ سهماً يدلُّ على بيتي الجديد. سأرسمُ طريقاً متعرّجة تُوصل من لن يقصدني الى هذا البيت الجديد.

سأنعزل، سأُغلق الباب في وجه كل طارق، وسأقبعُ وراء نافذتي مترقّباً كل قادمٍ لأُغلق الباب في وجهه أيضًا. سأُبقي كل من يقصدني منتظرًا، عند حديقة سأرسمها حول بيتي لاحقاً. سأُشكّلُ جمهورًا منتظرًا، متشوّقًا لإطلالتي. ولكنّي لن أظهر، فظهوري سيكون خيبة كل منتظرٍ وكل مترقّب.

سأرسمُ عند عتبتي علامة الوداع، وداعٌ لكلّ شيء وكل من سيأتي إليّ. سأرسمُ وداعاً ثابتاً لا يتغيّر ولا يتبدّل حتى لو تبدّل رأيي وهجرني قراري. سأرسمُ له إرادةٌ يتغلّبُ بها على إرادتي. سأكتبُ في وداعي تعليماتي بعد الغياب، ولن تنتهي هذه التعليمات إلّا  عند نفاذ حبري.

وعند نفاذُ حبري، سأنزف قطرة دماءٍ أخيرة، وسأنتهي. هناك، في كوكبي الجديد، على شرفة منزلي الجديد، حيث لن يكون هناك أي جديد، سأُعاودُ الانتهاء.

أمنية

ليتك إنت كلّ معارفي وليتك أنت كلّ معرفتي.

ليتك أنت محيطي وكلّ ما أدورُ حوله.

ليتك أنت كلّ ما أريد وكلّ ما أهربُ منه وإليه.

ليتك أنت ما أصبو أن أكونه وكلّ ما أتمنى حدوثه.

ليتك في نومي وسادتي، أرخي بهمومي عليها وأذرفُ ما بقي من دمعٍ فوقها. ليتك في صحوتي فنجان قهوة، أرتشفُ المرَّ منه ويطيب لي ما يفورُ من قساوة مرارتها. ليتك ابتسامتي، وصوت ضحكتي العالي، أعلو بك كيفما أريد. ليتك سكوني، أتوحّدُ معك في كينونة تطردُ ضجيج العالم بعيدًا. ليتك مسائي، أهربُ بك من أضواء الغضب وشعاع الكره. ليتك شمسي، تُبدّدُ ظلمة أحزاني وما ساد من عتمة الزوايا في أرجائي.

ليتك لي، وليتني لك. ليتك لي وحدي، أنتصرُ بك على هذه الدنيا وسكّانها. ليتني لك وحدي، تحتلّني وتُغلقُ حدودك عليّ.

ليتنا معاً، نرتقي الى وجودٍ آخر، حيث لا أحد غيرنا، ولا يعكّرُ صفونا إِلَّا نحن، عندما تحين الإثارة.

حالة

كل يوم أحملُ دفتري وقلمي آملًا أن أكتبَ شيئاً مفيدًا. أحياناً أفتحُ دفتري، أحملُ قلمي وأتأمّلُ الصفحة البيضاء لساعات متتالية. وأحياناً أُخرى، أرسم على صفحاتي البيضاء أحداثاً في خيالي لمجرّد التسلية. فقلمي لا يطاوعني في معظم الأحيان. قلمي لا يتبعني، بل أنا الذي يتبعه. حتى صفحاتي، لا تنصاع لأوامري، بل أنا رهنٌ لها ولأوامرها.

كل يوم أحملُ قلمي ودفتري آملًا أن أكتُبَ شعرًا. أنْظمُ الكلمات في رأسي، أُضيف إليها من الحزن نكهة، ومن الوجدان رشّة ولا أكتب. لستُ جديرًا، لا بالشعر ولا بالأدب.

أتظاهرُ كلّ يوم بأنني مرهفُ الإحساس، حزينٌ تثقلني هموم الدنيا. والحقيقة هي أن هموم هذه الدنيا أرهقتني وقتلتْ داخلي لتتركني جسدًا خالياً من الإحساس. تركتني جسدًا مليئاً بالحزن، أجوَفاً مكسورًا من الداخل قبل الخارج.

خرجتُ عن سيطرة نفسي، بتُ هائجاً غيرُ سوي، أصطنعُ الهدوء لاعتيادي عليه، أتشبّثُ بالرصانة وأنا فاقدها وأركلُ البُغضَ بعيدًا عني وأنا مشبعٌ به.

وها أنا أُكرّرُ نفسي كما هي عادتي وأقول سئمت. سئمتُ نفسي وحياتي، سئمتُ ضعفي وتخاذلي وسئمتُ نوبات الأمل التي تعصفُ بي ثم تستكين كما تستكين كل عاصفة عاتية بغيضة.

تستكين بي عاصفة الأمل وترحل، تاركةً فوضى اليأس والحياة وراءها.